سورة ق - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ق)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ق} أيها القريب المقرب من حضرتنا {و} حق {القرآنِ المجيد} إنك لرسول مجيد، أو: {ق} أي: وحق القَويّ القريب، والقادر القاهر. وقال مجاهد: هو جبل محيط بالأرض من زمُردة خضراء، وعليه طغى الماء، وخُضرة السماء منه، والسماء مقبّبة عليه، وما أصاب الناس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل. ورُوي أن ذا القرنين وصل إليه، فخاطبه، وقال: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إن شأن ربنا لَعظيم، وإن ورائي أرضاً ميسرة خمسمائة عام، في عرض خمسمائة عام، من ثلج يحطم بعضه بعضاً، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم. اهـ.
{والقرآنِ المجيد} أي: ذي المجد والشرف على سائر الكتب، أو: لأنه كلام مجيد، مَن علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله وعند الناس. وجواب القسم محذوف، أي: إنك لرسول نذير، أوك لتُبعثن، بدليل قوله: {أئذا متنا...} إلخ، أو: إنا أنزلناه إليك لِتُنذر به فلم يؤمنوا، {بل عَجِبوا أن جاءهم} أي: لأن جاءهم {مُنذر منهم} من جنسهم، لا من جنس الملائكة، أو: من جلدتهم، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب، وهو أن يُخوفهم من غضب الله رجلٌ منهم قد عرفوا عدالته وأمانته، ومَن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه، خائفاً أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف؟ أو إنكار لتعجُّبهم مما أنذرَهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما، وإقرارهم بالنشأة الأولى، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء، وإلا كان إنشاء الخلق عبثاً، ثم بيَّن تعجُّبهم بقوله: {فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ} أي: هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شيءٌ عجيب، أو: كون محمد منذراً بالقرآن شيءٌ يُتعجب منه. ووضع {الكافرون} موضع الضمير للدلالة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمون على كفر عظيم.
ثم قالوا: {أئِذا متنا وكنا تُراباً} أي: أنُبعث حين نموت ونصير تراباً كما يقوله هذا النذير؟ {ذلك رجع بعيد} أي: ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعَد، منكَر، بعيد من الوهم والعادة. فالعامل في إذا محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا. قال تعالى: {قد عَلِما ما تنقصُ الأرضُ منهم} وهو ردّ لاستبعادهم؛ فإنَّ مَن عمّ علمه ولطفه حتى ينتهي إلى حيث علم ما تنقص الأرضُ من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظمهم، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبُ الذَّنَب، ومنه خُلق، وفيه يُرَكَّب»
وهو العُصْعص، وقال في المصباح: العَجْب- كفلْس- من كل دابة: ما انضم عليه الورِك من أصل الذَّنَب. اهـ. وهو عَظم صغير قدر الحمصة، لا تأكله الأرض، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء. قال ابن عطية: حفظ ما تنقص الأرض إنما هو لِيعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو الحق. وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه، هذا عندي خلاف ظاهر كتاب الله، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدي ولأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أسجاد الدنيا هي التي تعود. اهـ.
{وعندنا كتابٌ حفيظ} لتفاصيل الأشياء، أو: محفوظ من التغيير، وهو اللوح المحفوظ، أو: حافظاً لما أودعه وكتب فيه، أو: يريد علمه تعالى، فيكون تمثيلاً لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزيئاتها، بعلم مَنْ عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء.
{بل كذّبوا بالحق} إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة، وتكذيب البعث، إلى ما أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة، {لَمَّا جاءهم} من غير تأمُّل وتفكُّر، وقيل: الحق: القرآن، أو: الإخبار بالبعث، {فهم في أمر مَرِيج} مضطرب، لا قرار له، يقال: مرج الخاتم في أصبعه إذا اضطرب من سعته، فيقولون تارة: مجنون، وطوراً: ساحر، ومرة: كاهن، ولا يثبتون على قول. أو: مختلط، يقال: مرج أمر الناس: اختلط. أو: ملبِس، قال قتادة: مَن ترك الحق مرج عليه أمره، وألبس عليه دينه.
{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم} بحيث يشاهدونها كل وقت {كيف بَنيناها} رفعناها بغير عمد {وزيّناها} بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب، {وما لها من فُروج} من فنوق لمَلاستها وسلامتها من كل عيبٍ وخلل، {والأرضَ مددناها} بسطناها {وألقينا فيها رواسيَ} جبالاً ثوابت، من: رسى الشيء: ثبت، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرسال، {وأنبتنا فيها من كل زوج} صنف {بهيج} حسن. {تبصرةً وذِكرَى} علتان للأفعال المذكورة، أي: فعلنا ما فعلنا تبصُّراً وتذكيراً {لكل عبدٍ مُنيبٍ} أي: راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنائعه.
{ونزَّلنا من السماء ماءً مباركاً} كثير المنافع {فأنبتنا به جناتٍ} بساتين كثيرة {وحبَّ الحصيد} أي: حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات؛ إذ به جل القوام.
{والنَّخْلُ باسقاتٍ} طوالاً في السماء، أو: حوامل، من: بسَقت الشاة: إذا حملت. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، {لها طَلع نَضِيدٌ} منضود، بعضه فوق بعض، والمراد: تراكم الطلع، أو: كثرة ما فيه من الثمر، {رزقاً للعباد} أي: لرزق أشباحهم، كما أن قوله: {تبصرة وذكرى} لرزق أرواحهم. وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذي هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسي، {وأحيينا به} بذلك الماء {بلدةً ميتاً} أرضاً جدبة، لا نماء فيها أصلاً، فلما أنزلنا عليه الماء رب واهتزت بالنبات والأزهار، بعدما كانت جامدة.
وضمَّن البلدة معنى البلد فذَكَّر الوصف. {كذلك الخروجُ} من القبور، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم، لأن إحياء الموت كإحياء الأموات. وقدّم الخبر للقصد إلى القصر. والإشارة في {كذلك} إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها، أي: مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شيء مخالف لها. وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن حياة الأموات بالخروج؛ تفخيم لشأن النبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة؛ لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه إلى أفهام الناس.
الإشارة: {ق} أيها القريب المقرَّب، وحق القرآن المجيد، إنك لحبيب مجيد، رسول من عند الله الملك المجيد، وإن كنت بشراً فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر، فالبشرية لا تُنافي الخصوصية، بل تجامعها مِنَّةً منه تعالى وفضلاً، على مَن شاء من عباده، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشراً من طين، وذلك قياس فاسد، مضاد للنص، وكما استَبعدت الكفرة وجود خصوصية النبوة في البشر، استبعدت الجهلُ خصوصية التربية بالإصطلاح في البشر، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم، يدل على الله، ويُبين الطريق إليه، قالوا: هذا شيء عجيب: {أئذا متنا} بأن ماتت قلوبنا بالغفلة، {وكنا تراباً} أرضيين بشريين، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد.
قال تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} أرض النفوس من أرواحهم، وتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، فيجذبها إلى أعلى عليين، إن سبقت عنايتنا، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات، فيلتحق كل واحد بما سبق له. بل كذّبوا بالحق، وهو الداعي إلى الحق، لمّا جاءهم في كل زمان، فهم في أمر مريج، تارة يُقرون وجود التربية بالهمّة والحال، وينكرون الاصطلاح، وتارة يُقرون بالجميع، وينكرون تعيينه، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح، كيف بنيناها، أي: رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف، وزيَّنَّاها بأنوار الإيمان والإحسان، وليس فيها خلل، وأرض النفوس مددناها: جعلناها بساطاً للعبودية، وألقينا فيها رواسي أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان، وأنبتنا فيها من كل صنف بهيج، من فنون علم الحكمة والتشريع، تبصرةً وتذكيراً لكل عبدٍ منيبٍ، راجع إلى مولاه، قاصدٍ لمعرفته.
قال القشيري: تبصرةً وذكرى لمَن رجع إلينا في شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا. اهـ. ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدينة، كثير البركة والنفع، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد، وهو حب المحبة؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله. والنخل باسقات، أي: شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد: ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود، رزقاً لأرواح العباد، وأحيينا به نفساً ميتة بالغفلة والجهل، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، أي: مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج، وإلا فلا.


يقول الحق جلّ جلاله: {كذبتْ قبلَهم} أي: قبل قريش {قومُ نوحٍ} نوحاً، حيث أنذرهم بالبعث، {وأصحابُ الرسّ} قيل: هم مَن بعث إليهم شعيب عليه السلام كما مَرَّ في سورة الفرقان بيانه وقيل: قوم باليمامة، وقيل: أصحاب الأخذود. والرس: بئر لم تطو، {وثمودُ وعادٌ وفرعونٌ} أراد بفرعون قومَه، ليلائم ما قبلهم؛ لأن المعطوف عليه جماعات، {وإِخوانُ لوط} قيل: كان قومه من أصهاره عليه السلام، فسماهم إخوانه، {وأصحابُ الأيكة} هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين، {وقومُ تُبَّعٍ} هو ملك باليمن، دعا قومه إلى الإسلام وهم حِمير، فكذَّبوه، وسُمّي تُبعاً؛ لكثرة تبعه.
قال ابن إسحاق: كان تُبع الآخِر هو أسعدُ بن كرْب، حين أقبل من المشرق، ومرّ على المدينة، ولم يُهِج أهلها، وخلف عندهم ابناً له، فقُتِل غيلة، فجاء مجمعاً على حربهم، وخراب المدينة، فأجمع هذا الحي من الأنصار على قتاله، وسيدهم عمرو بن طلحة، أخو بن النجار، فتزْعُم الأنصارُ: أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرُّونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: إن قومنا هؤلاء لكرام، فبينما هو كذلك إذا جاءه حَبران من أحبار بني قريظة، من علماء أهل زمانهما، فقالا: أيها الملك لا تقاتلهم، فإنا لا نأمن عليك العقوبة؛ لأنها مهاجر نبيّ يخرُج من هذا الحي، من قريش، في آخر الزمان، هي داره وقراره، فكُفّ عنهم، ثم دعواه إلى دينهما، فاتبعهما، ثم رجع إلى اليمن، فقالت له حِمير: لا تدخلها وقد فارقت ديننا، فحاكِمْنا إلى النار، وقد كانت باليمن نار أسفل جبل يتحاكمون إليها، فتأكل الظالم لا تضر المظلوم، فخرجوا بأصنامهم، وخرج الحَبران بمصاحفهما، فأكلت النارُ الأوثانَ، وما قَرَّبوا معها، ومَن دخل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، يتلوان التوراة، ولم تضرهما، فأطبق أهلُ حمير على دين الحبرين، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن. قال الرياشي: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث بسبعمائة سنة. وتقدّم شِعره في الدُخَان.
{كُلٌ كّذَّب الرسلَ} فيما أُرسلوا به من الشرائع، التي من جملتها: البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة، أي: كل قوم من الأقوام المذكورين كذّبوا رسولهم {فحقَّ وعيدِ} أي: فوجب وحلّ عليهم وعيدي، وهي كلمة العذاب. وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم.
{أفَعيِينَا بالخلق الأول} استئناف مقرر لصحة البعث، الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. والعَيُّ بالأمر: العجز عنه، يقال: عيى بالأمر: إذا لم يهتدِ لوجه عمله. والهمزة للإنكار، والفاء: عطف على مقدر، ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ {بل هم في لَبْسِ من خَلقٍ جديدٍ} أي: بل هم في لبس وخلط وشُبهة، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم، حيث سؤَّل لهم أن إحياء الموتى خارج عن العادة، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح، وهو: أن مَن قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.
وهو معطوف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف جديد. وتنكير {خلق} لتفخيم شأنه، والإشعار بخروجه عن حدود العادة، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته.
الإشارة: قال القشيري: الإشارة في الآية إلى أنَّ الغالب في كل زمان غلبة الهوى والطبيعة الحيوانية واستيلاء الحس على الناس، نفوسهم متمردة. بعيدة من الحق، قريبة من الباطل، كلما جاء إليهم رسول كذّبوه، وعلى ما جاء به قاتلوه، فحقَّ عليهم عذابُ ربهم، لَمَّا كفروا نِعَمَه، فما أعياه إهلاكهم. اهـ. قلت: وكذلك جرى في كل زمان، كل مَن أَمَر الناس بإخراجهم عن عوائدهم، ومخالفة أهوائهم، رفضوه وعادوه، فقلَّ بسبب ذلك المخلصون، وكثر المخلطون، فإذا قالوا: لا يمكن الإخراج عن العوائد، قلنا: القدرة صالحة، قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} وهو إحياء القلب الميت، فيجدّد إيمانه، وتحيا روحه حياة سرمدية. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد خلقنا الإِنسانَ ونعلمُ ما تُوسْوسُ به نفسُه} أي: ما تُحدِّثه نفسُه ويهجس في ضميره من خير وشر. والوسوسة: الصوت الخفي، ووسوسة النفس: ما يخطر بالبال. والضمير في {به} ل {ما} إن جعلتها موصولةً، والباء كما في: صَوَّت بكذا، أو: للإنسان، إن جعلتها مصدرية. والباء حينئذ للتعددية. {ونحن أقربُ إِليه} أي: أعلم بحاله مما كان أقرب إليه {مِن حبل الوريد} والحبل: العرق، وإضافته بيانية والوريدان: عرقان مكتفان بصفحتي العنق في مقدمه متصلان بالوتين، والوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. قاله في القاموس، يَرِدان من الرأس إليه، وقيل: سُمي وريد؛ لأن الماء يرده.
{إِذ يتلقَّى المتلقيان} أي: الملكان الحافظان لأعمال العبد. والظرف: منصوب بما في {أقرب} من معنى الفعل، أي: يتقرب إذ يتلقى. والمعنى: أنه تعالى لطيف يتوصل علمُه إلى ما لا شيء أخفى منه، وهو أقرب للإنسان من كل قريب، حين يتلقى الحافظان ما يُتلفظ به، وفيه إيذان بأنه تعالى غنيٌّ عن استحفاظها؛ لإحاطة علمه بما يخفى عليهم، وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العباد، وعرض صحائفها يوم يقوم الأشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته بتفاصيل أحواله من زيادة لطف به في الكف عن السيئات، والرغبة في الحسنات. ثم ذكر مكانهما بقوله: {عن اليمين وعن الشمال قَعِيدٌ} أي: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وقعيد: بمعنى مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس، أو: بمعنى قاعد، كالسميع والعليم. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إن مقعد ملَكيْك على ثَنِيَّتِيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادُهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما!» وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر من الحَنَك، ورواه عن الحسن، وكان يُعجبه أن ينظف عنفقته.
{ما يلفظ مِن قولٍ} أي: ما يتكلم به وما يَرْمي به من فِيه {إِلا لديه رقيبٌ} حافظ {عتيدٌ} حاضر لازم، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر، وقال أبو أمامة عنه صلى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنةً كتبها صاحبُ اليمين عشراً، وإذا عمر سيئة قال صاحبُ اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يُسبِّح أو يستغفِر».
قال الحسن: إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه، وعند جماعه، ويكتبان عليه كل شيء، حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر. وعنه عليه السلام: «ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا، فيرى الله تعالى في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً، إلا قال للملائكة: اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة»
والحفظة أربعة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، فإذا مات العبد قاموا على قبره يُكبران ويُهللان ويُكتب ذلك للعبد المؤمن.
ولمَّا ذكر إنكارهم للبعث، واحتج عليهم بعموم قدرته وعِلمه، أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه بعد الموت، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال: {وجاءت سكرةُ الموت بالحق..} إلخ. وقال ابن عطية: هو عندي عطف على {إذ يتلقى} والتقدير: وإذ تجيءُ سكرة الموت، يعني فهو كقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} [الواقعة: 85] الآية. اهـ. وحاصل الآية حينئذ: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه، ونحن أقربُ إليه في جميع أحواله، في حياته، ووقت مجيء سكرة الموت، أي: شدته الذاهبة بالعقل، ملتبسة {بالحق} أي: بحقيقة الأمر، وجلاء الحال، من سعادة الميت أو شقاوته، {ذلك ما كنتَ منه تحيدُ} أي: تنفر وتهرب وتميل عنه طبعاً. والإشارة إلى الموت. والخطاب للإنسان في قوله: {ولقد خلقنا الإنسان} على طريقة الالتفات.
{ونُفخ في الصور} نفخة العبث {ذلك يومُ الوعيد} أي: وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد، أي: يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد. وتخصيص الوعيد بالذكر؛ لتهويله، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله: {وجاءت كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البرّة والفاجرة {معها سائق وشهيد} أي: ملكان، أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله. قيل: السائق: كاتب الحسنات، والشاهد: كاتب السيئات، ويقال لها: {لقد كنتَ في غفلة من هذا} النازل بك اليوم، {فكشفنا عنك غِطاءك} فأزلنا غفلتك، وهو الوقوف مع المحسوسات والإلْف، والانهماك في الحظوظ، وقصر النظر عليها، فشاهدت اليومَ ما كنتَ غافلاً عنه {فبصرُكَ اليومَ حديدٌ} نافذة؛ لزوال المانع. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطّى به جسده، أو غشاوة غطّى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة سقط، وزالت عنه الغفلة، وكشف غطاؤه، فبصر ما يبصره من الحق، ورجح بصره الكليل حديداً، لتيقُّظه حين لم ينفع التيفظ. وبالله التوفيق.
الإشارة: هذه الآية وأشباهها أصل في مقام المراقبة القلبية، فينبغي للعبد أن يستحيي من الله أن يُحدِّث في نفسه بشيء يتسحيي أن يظهره، يعني الاسترسال معه، وإلا فالخواطر العارضة لا قدرة على دفعها. قال القشيري: {ما توسوس به نفسُه} من شهوة تطلب استيفاءها، أو تصنُّع مع الخَلْق، أو سوء خُلُق، أو اعتقاد فاسد، أو غير ذلك من أوصاف النفس، توسوس بذلك لتشَوِّش عليه قلبه ووقته، وكيف لا نعلم ذلك وكُلُّ ذلك مما خلقناه وقدرناه. اهـ.
وقوله تعالى: {ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد} أي: أنا أقرب إلى كل أحد من عروق قلبه، وهذا لأن قيام الفعل بالصفات، والصفات لا تُفارق الذات، فالقرب بالعلم والقدرة، وتستلزم القرب الذات، وقرب الحق من خلقه هو قرب المعاني من الأواني، إذ هي كليتها وقائمة بها، فافهم.
قال القشيري: وفي هذه الآية هَيْبَةٌ وفَزَعٌ لقوم، ورَوْحٌ وأُنْسٌ وسُكونُ قلبٍ لقوم. اهـ. وقوله تعالى: {إذ يَتَلقى المتقليان...} إلخ، كأنّه تعالى يقول: مَن لم يعرف قدر قُربي منه، بأن يَعده وهمُه وجهلُه، فإني أوكل عليه رقيبين يحفظان أعماله لعله ينزجر.
وقوله تعالى: {ما يلفظ من قول...} إلخ، وأما عمل القلوب فاختص الله تعالى بعلمها، وهي محض الإخلاص. قال بعضهم: الإخلاص: إخفاء العمل بحيث لم يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، فالعارفون جُلّ أعمالهم قلبية، نظرة أو فكرة. رُوي أن بعض العارفين قال له حفظتُه: يا سيدي أظهر لنا شيئاً من أعمالك نفرح به عند الله، فقال لهم: يكفيكم الصلوات الخمس. اهـ. قال القشيري: وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده، إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة ليحفظوه بالليل والنهار، إذا كان قاعداً فواحد عن يمينه وواحد عن شماله، وإذا قام فواحد عند رأسه، وواحدٌ عند قَدَمِه، وإذا كان ماشياً فواحدٌ بين يديه وواحد خَلْفه. انظر بقيته. اهـ. وهذان غير الملكين الموكلين بحفظ الأعمال. والله أعلم.
وقال في قوله: {وجاءت سكرةُ الموت بالحق}: إذا أشرفت النفسُ على الخروج من الدنيا، فأحوالهم تختلف، فمنهم مَن يزداد في ذلك الوقت خوفُه، ولا يتبيّنُ حاله إلا عند ذهاب الروح، ومنهم مَن يُكَاشف قبلَ خروجه فتَسُكُن روحُه، يُحفظ عليه عَقْلُه، ويتم له حضورُه وتمييزُه، فسلَّم الروحَ على مَهَلٍ من غير استكراهٍ وعبوس منهم. وفي معناه يقول بعضهم:
أنا إنْ مِتُّ فالهوى حشو قلبي *** وبداءِ الهوى تموت الكرامُ
{ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} لكل نفس ما وعدها الله، بحسب سيرها من أول العمر إلى يوم البعث، {وجاءت كل نفس معها سائق} وهو الذي ساقها في مبدأ الوجود، إما سوقاً باللطف، أو سوقاً بالعنف عند قوله: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي»، وشهيد يشهد عليها بما جرى لها من الأحكام الأزلية {لقد كنتَ في غفلة من هذا} قال القشيري: يُشير إلى أن الإنسان، وإن خُلق من عالم الغيب والشهادة، فالغالب عليه في البداية الشهادة، وهو العالم الحسي، فيرى بالحواس الظاهرة العالَم المحسوس مع اختلاف أجناسه، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب، فمن الناس يكشف له غطاؤه عن بصره بصيرته، فيجعل حديداً، يبصر رشده، ويحذر شره، وهم المؤمنون من أهل السعادة، ومنهم مَن يكشف له غطاء عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم {لا ينفع نفساً إيمانها..} الآية، وهم الكفار من أهل الشقاوة. اهـ.

1 | 2 | 3